بوادر تفكك أكبر حزب إسلامي في تونس

نتائج الانتخابات التشريعية تحدد مصير حركة النهضة أحداث مهمة

4 أكتوبر، 2019


4 أكتوبر 2019

قسم أبحاث مركز (MenaCC)

ملخص التقرير : عقب تفكك الحزب الحاكم السابق في تونس (نداء تونس) بموت زعيمه الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي، تلوح في الأفق مؤشرات بداية تفكك حزب آخر، وهو أكبر حزب منظم في تونس والذي كان حليفاً للحزب الحاكم وهو حزب حركة النهضة الإسلامي الذي تشكلت نواته منذ بداية الثمانينات وظل مقصياً عن المشاركة في الحياة السياسية الى أن أتاحت ثورة 14 يناير 2011 لقيادات الحركة العودة الى البلاد والعمل السياسي تحت مظلة حزب سرعان ما تمددت فروعه في أغلب مناطق الجمهورية التونسية وشارك في صياغة الدستور وتوازن سياسي جديد في البلاد. لكن التوازن والتوافق بات مهدد أكثر من أي وقت مضى بالاختلال بفعل ضبابية مستقبل نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية الحالية والتي أطاحت بفكرة الأحزاب الكبرى المنظمة نحو تعزيز فكرة الاصطفاف وراء السياسيين المستقلين.

وحسب تحليل قام به مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية (MenaCC) فمن المرجح أن يتحدد مصير أكبر حزب إسلامي في تونس (حركة النهضة) بنتائج الانتخابات التشريعية التي تجري يوم السادس من أكتوبر الجاري. ففي حال خسارة الحزب لثقله في مجلس النواب مقارنة بالانتخابات السابقة 2014، من المتوقع أن تتعزز احتمالات بداية خسارته لشعبيته واهتزاز ثقة قواعده وأعضائه في مشروعه السياسي وهو ما قد يقود الى خلافات بين القياديين قد تنتهي الى احتمالات تفككه وتفريخ أحزاب إسلامية أخرى يؤسسها منشقون من الحركة خاصة من هم على خلاف مع إدارة الغنوشي لمستقبل النهضة. وقد يتأكد هذا الاحتمال أيضاً مع توقع ظهور الاحتقان الداخلي بين قياديي الحركة الى العلن في المؤتمر العام للحزب المقبل الذي سينتخب خليفة للزعيم التاريخي للنهضة راشد الغنوشي الذي تنتهي رئاسته للحركة.

الى ذلك فان تضارب شعارات “حركة النهضة” في حملة الدعاية للانتخابات التشريعية بين شعارات محافظة وأصولية، وأخرى حداثية وليبرالية، وتارة أخرى تكتسب الشعارات طابع ثورية، اختلاف من شأنه زيادة تشتت المتعاطفين مع الحركة وهو ما قد يتسبب في زيادة نزيف الخزان الانتخابي للنهضة واتجاه بعض الناخبين لتيارات أخرى أكثر وضوحاً في الأهداف والوجهة والتحالفات.

وقد واجهت الأحزاب الكبرى في تونس ما بعد الثورة تحديات تفككها بمجرد انسحاب أو رحيل زعاماتها عن القيادة حيث ارتبطت شرعية بعض الأحزاب بما في ذلك حزب النهضة بقياداتها أكثر من مشروعها السياسي والتنموي. فقد تفككت أحزاب كبرى مثل “نداء تونس” الحزب الحاكم سابقا، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية حزب الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي، وحزب اليسار (الجبهة الشعبية) الذي انقسم الى أكثر من حزب بعد خلاف قيادييه. وبخلاف الأحزاب التي تفككت، يسعى الإسلاميون في حركة النهضة لمنع مواجهة المصير نفسه. وهذا المصير قد يتحدد عقب اختيار خليفة لمؤسس الحركة راشد الغنوشي خلال المؤتمر العام القادم للنهضة.

وقد ظهرت انشقاقات بين أعضائه المؤسسين التي طالما حاولت الحركة التكتم عنها ونفيها وتأكيد الاصطفاف وراء مؤسس الحركة الشيخ راشد الغنوشي الذي ظل يرمز للشخصية التوافقية والجامعة لأعضاء الحركة والمنصهرة في رؤيته. الا ان زيادة ظهور خلافات على مستوى مجلس شورى الحركة فيما يتعلق بخلافة الغنوشي التي تنتهي رئاسته للحركة هذا العام يعطي مؤشرات مقلقة حول استقرار التنظيم الذي ميّز النهضة عن بقية الأحزاب.

وقد عاشت الحركة موجة احتقان داخلي وسط اتهامات أبرز قياداتها لمكتب الحركة التنفيذي ورئيسه الغنوشي بالانحياز لدوائره المقربة في عملية اختيار مرشحي الحركة على القوائم التشريعية. وعبر حينها القيادي محد بن سالم عن خشيته على مستقبل الحركة في ظل ما زعم أن ما يحدث داخل الحركة اقصاء للأصوات الحرة. كما كان آخر مؤشر على التصدع وجدية الخلافات تمثل في زيادة انشقاقات بين رموز تاريخية للحركة مثل الأمين العام السابق للحركة حمادي الجبالي الذي أقحم بنفسه في الانتخابات الرئاسة الماضية منافسا نائب رئيس الحركة عبد الفتاح مورو، وهو ما قد يعتبر تشتيتا لأصوات الخزان الانتخابي المؤيد للحركة الذي طالما يستند الى بيان يصدر من رئاسة الحركة لدعم مرشح واحد. الى ذلك لم يحظى مرشح الحركة نفسه بتأييد كبير من الإسلاميين خصوصا من ناحية تمويل حملته الانتخابية مقارنة بالمنافسين. ويعتقد بعض المحللين ان خسارة مورو تعتبر نهاية لمشواره السياسي في الحركة واحتمال عدم انتخابه لرئاسة النهضة بعد الغنوشي الذي اختار الترشح للانتخابات التشريعية في ظل سعي لرئاسة كتلة النهضة في البرلمان والترشح لرئاسة مجلس النواب بهدف المحافظة على سيطرة غير مباشرة على الحركة بعد نهاية رئاسته لها.

وتعد خلافة الغنوشي معضلة قد تخلق الكثير من الخلافات بين قياديي الحركة حيث يتنافس كثيرون على رئاسة الحركة. ويعتقد ان انتخاب أحد المقربين من الغنوشي لرئاسة الحركة قد يفسح مجالا لانتقادات وانشقاقات أكبر خصوصا بين الجيل الثاني لقيادي الحركة وخاصة بين الشباب.

وتعود الخلافات الى بداية العام الجاري حيث كان القيادي لطفي زيتون أعلن انشقاقه عن حركة النهضة الإسلامية وتأسيس حزب آخر في بداية العام الجاري مؤكدا آنذاك أن حزب النهضة هو حزب ديني وليس حزباً مدنياً كما أعلن عن ذلك الغنوشي في ظل استمرار الترويج لأهداف تحول الحزب من ديني الى مدني كتكريس للديمقراطية والانفتاح داخل الحزب. وأعربت منظمات دولية ان تحول النهضة التي زعمته الى حزب مدني قد يكون صورياً فقط لأغراض سياسية. فليس سهلا تحول حقيقي لرؤية حركة قامت على المرجعية الاسلامية الى حزب مدني بمجرد إقرار ذلك. فخروج النهضة غير سهل من الإسلام السياسي1.

نهاية المشروع الإسلامي لحركة النهضة كانت نتيجة للضغوط الداخلية والخارجية التي ولدت من براغماتية وسياسة المعاملات حيث كان على النهضة تقديم تنازلات، خاصة خلال الحوار الوطني 2013-2014، لضمان وتعزيز مشاركتها في انتقال تونس إلى الديمقراطية. وحين قرر حزب النهضة السياسي الإسلامي التركيز على السياسة بدلاً من الوعظ، هذا التحول أجبرها على إعادة بناء شرعيتها على أساس البرهان وليس الدين2.

ولقد كان قرار النهضة التاريخي بأن يصبح حزباً سياسياً بحتاً بدلاً من حركة منخرطة في الدعوة الدينية بمثابة التصدع في وعي الناخب بالنهضة وأهدافها الأصيلة ومثل تغييراً جذرياً في الاستراتيجية وإعادة تعريف هوية الحركة التي ضللت عددا من المتعاطفين معها.

وتواجه حركة النهضة تحدي خسارتها لجزء من مشروعية نضالها التاريخي في عهد استبداد النظام المخلوع والراحل زين العابدين بن علي، اذ أن تحول هويتها ليس بالأمر السهل استيعابه بين قواعدها خاصة غير المتعلمين الذين من المحتمل ان عددا منهم ما يزال يصنف الحركة كجماعة من المصلحين الإسلاميين المحافظين على غرار الاخوان المسلمين. ويعتبر قيام حركة النهضة بتوازن بين طموحات السياسة والتواصل الديني والاجتماعي والثقافي هو عملية محفوفة بالمخاطر. فإنشاء الحركات الإسلامية لعلاقات سياسية في الأنظمة الديمقراطية هو عمل تكيف استراتيجي وفكري مع ظروف غير متغيرة ولكنه أمر يكبد الكثير من التكاليف3. ولعل أكبر تكلفة خسارة جزئية لقواعدها.

الحزب الذي اتخذ هوية ومرجعية إسلامية منذ بداياته وأسس له شرعية شعبية بين طبقة المحافظين في تونس، بدأ يفقد تدريجياً حجم المتعاطفين والانصار المؤيدين له ولأهدافه التي كانت في البداية متركزة على نهضة وإصلاح القيم والمجالات الاجتماعية والتنموية. فمنذ سنوات قليلة وتزامنا مع الانتخابات البلدية بدأت الكتلة الشعبية المؤيدة للنهضة أو المتعاطفة في تقلص تدريجي بدعوى عدم ايفاء النهضة بوعودها لقواعدها الانتخابية.

الى ذلك بدأت الحركة في فقدان جزء من تعاطف أنصارها منذ اعلان تغيير هوية الحزب وتخليه عن الإسلام السياسي صوريا من حزب ذات هوية إسلامية الى التنصل من الصفة الإسلامية الى المدنية بدعوة تجديد الحركة وحرصها على الفكر الديمقراطي. الا أن تحول الهوية المزعوم للحركة قد يعتبره بعض أنصار الحركة من صقور المحافظين بمثابة الدخول في مرحلة التخبط او فقدان الهوية والضبابة والتشتت. فانفتاحها على غير حاملي فكر الحركة الاسلامية وانشاء تحالفات مع أحزاب متناقضة في الفكر والسماح لشخصيات من معتقدات أخرى بدخول الحركة قد يصنفه عدد من المحافظين داخل الحركة بخيانة الحركة لمبادئها التي مثلت شرعيتها التي التف حولها الكثيرون والذين كان يعتبرونها حزب المحافظين والداعي الى اصلاح المجتمع والاقتصاد والسياسية بفكر إسلامي معتدل.

تحول هوية النهضة أربكت شعاراتها وطريقة التسويق والترويج لأفكارها ورؤيتها الإصلاحية بين تارة إسلامية وتارة علمانية بدعوى التمسك بالديمقراطية والحداثة. رؤية النهضة الجديدة لم تصل بشكل واضح على ما يبدو للقاعدة الانتخابية الذي بات جزء ولو قليل منها ينحاز لتيارات محافظة أخرى نشأت حديثا أبرزها “ائتلاف الكرامة” الذي أسسه المترشح السابق للرئاسة والمحامي سيف الدين مخلوف والذي يصنف بتشدده في الدعوة الى الإصلاح بفكر متأصل ومحافظ ومتشبث بأهداف حركة الإسلامية الأصولية.

ولعل أبرز مؤشرات بداية تراجع شعبية النهضة خسارة مرشحها في الانتخابات الرئاسية وخصوصا انها من تمتلك كما وصفت مراكز دراسات أكثر قاعدة انتخابية ملتزمة. لكن يبدو ان جزء من هذه القاعدة لم تعد ملتزمة. كما اعتبر إصرار الحركة على تأييدها للمرشح للدور الثاني في الرئاسيات المستقل قيس سعيد مؤشرا آخر على رغبتها في تحسين صورتها كحزب مؤيد لخيار الداعين للديمقراطية. الا ان نأي المرشح قيس سعيد بكونه خيار الاسلاميين جعل الحركة في احراج. وبدت كأنها تبحث عمن يلمع صورتها من جديد وهو ما قام به شخصيا رئيس الحركة راشد الغنوشي الذي انفتح على الاعلام والتظاهرات الانتخابية كما لم يفعل ذلك من قبل دفاعاً على شرعية الحركة وأهدافها وانحيازها كما يزعم الغنوشي لمطالب الثورة التي يعتقد مراقبون ان الحركة حادت على تحقيق ما وعدت به ناخبيها طيلة 8 سنوات مم المشاركة في الحكم والبرلمان منذ الإطاحة بنظام الراحل بن علي في 2011.

الى ذلك ما يقلق الحركة اثارة عدد من التيارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني لملف الاغتيالات التي تزعم أطراف كثيرة أن جهاز سريا تابع للنهضة هو من قام بها وهو ما نفته الحركة مرار لكن احياء الاتهام يقوض عند الناخب البسيط الثقة العمياء التي كان يوليها للحركة ورئيسها.

وبدت علاقة الثقة بين الحركة والناخبين او الشعب في اهتزاز حيث لم تعد النهضة من تمتلك النصيب الأسد من الشعبية في اخر استطلاعات الراي وهو ما يفتح الباب لإعادة تشكل النهضة من جديد بعد ترك مؤسسها الغنوشي رئاسة الحركة.

 

 

المصدر: قسم الأبحاث بمركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية (MenaCC)

 

 

 

1 Hamza Meddeb, Ennahda’s Uneasy Exit From Political Islam, Paper, Carnegie, september 2019, https://carnegie-mec.org/2019/09/05/ennahda-s-uneasy-exit-from-political-islam-pub-79789
2 Hamza Meddeb, Ennahda’s Uneasy Exit From Political Islam, Paper, Carnegie, september 2019, https://carnegie-mec.org/2019/09/05/ennahda-s-uneasy-exit-from-political-islam-pub-79789
3 Rory McCarthy, When Islamists Lose: The Politicization of Tunisia’s Ennahda Movement, Article (PDF Available) in The Middle East Journal 72(3):365-384 · August 2018, https://www.researchgate.net/publication/327274813_When_Islamists_Lose_The_Politicization_of_Tunisia’s_Ennahda_Movement