لكي يستعيد المواطن التونسي هيبته: تعزيز فكرة التشاركية في البلديات

مقترحات واعدة لترسيخ المواطنة وممارسة الديمقراطية المباشرة والشفافية واللامركزية أحداث مهمة

11 مارس، 2023


تونس 11 مارس 2023: ينمو عدد التونسيين بوتيرة سريعة في الأحياء والمدن الواقعة بضواحي العاصمة التونسية. نمو لم يتوقف منذ سنوات، مبررا ضعف تركز التنمية الجهوية والريفية، والذي يفسّر زيادة الاقبال على العمل والإقامة قرب العاصمة. في مقابل هذا النمو، تقلصت قدرة استجابة الهيئات المحلية لاستيعاب هذا التوسع الديمغرافي وتلبية المطالب التنموية للمتساكنين.

وبسبب بطء أعمال التخطيط والتطوير لتركيز لامركزية الادارة وترسيخ مفهوم الممارسة الديمقراطية المباشرة وتسهيل وصول الخدمات، تواجه أغلب الهيئات الجهوية والمحلية التونسية وفي مقدمتها البلديات تحديات تنظيمية وتمويلية وبيئية ضخمة. في ظل ذلك لا يجد بعض الناشطين في العمل البلدي مناصاً من زيادة تفعيل أفكار التشاركية والتدبير الحر بين الإدارة والمواطن لإنجاز مشترك لبعض المشروعات الهادفة لتحسين جودة الخدمات والتهيئة العمرانية ومعالجة مشاكل بيئية وطبيعية حارقة بدل انتظار تدخل الدولة المقيد بالموارد الشحيحة.

ويمثل نقص التهيئة في بعض المناطق خطرا مقلقاً على صحة الانسان خاصة بالنظر لزيادة عوامل التلوث وشح الموارد المائية. كما بات نقص التهيئة المزمن في بعض المناطق عاملا مؤثرا بشكل مباشر على الصحة النفسية لجل الشرائح المجتمعية.

دوافع تفعيل أكبر لفكرة اللامركزية والممارسة الديمقراطية المباشرة

لعل جزء كبيرا من التونسيين فقد الأمل في نخبه السياسية التقليدية لإحداث تغيير ملموس ومنتظر في حياته، حتى بات الكثيرون يعزفون عن السياسة ويعولون على أنفسهم في تدبير حلول متعثرة ومؤقتة لمشاكلهم الحارقة والمزمنة والمتفاقمة خاصة الاقتصادية والاجتماعية.

الا أن تكيف الأفراد الاضطراري مع الأزمات المتراكمة في ظل محدودية استجابة مؤسسات الدولة بسبب ضعف الموارد لجلّ المطالب الشعبية يدفع الى النظر في زيادة تفعيل وتقنين فكرة التشاركية بين الإدارة والمواطن بهدف تحسين جودة الخدمات وتقليص البيروقراطية وتحسين قنوات التواصل والحوار البناء، والأخذ بعين الاعتبار بالآراء والأفكار والتوصيات من مختلف الشرائح الشعبية. زيادة تسهيل تطبيقات التشاركية من شأنها أيضا تحسيس الفرد بأهمية دوره وقدرته على احداث التغيير الإيجابي. مثل هذا التوجه قد يحفز في النهاية استرجاع ثقة المواطن في الإدارة، فضلاً عن تعزز عوامل الانتماء والالتزام المجتمعي لدى الفرد تجاه وطنه، وهو ما قد يرسّخ مفهوم “هيبة المواطن من هيبة الدولة”.

وتعاني الدولة منذ جائحة فيروس كورونا واندلاع الحرب الأوكرانية من تراكم المديونيات بوتيرة قياسية وزيادة أعباء الانفاق على الادارة. واقع يحث بعض التونسيين على البحث عن حلول خارج الدوائر الحزبية والسياسية، وباتت تتبلور رغبة شعبية في زيادة تفعيل مشاركة الفرد في دوائر صنع القرار بداية من الدوائر المحلية وصولاً الى الدوائر المركزية.

لكن السواد الأعظم من الشعب التونسي لا يعي آليات تعزيز مشاركته في تقرير المصير خاصة على المستوى المناطقي والمحلي (الهيئات المحلية والجهوية)، حيث يعاني عشرات ألاف التونسيين من احتقان اجتماعي وتفاوت تنموي حاد بين مختلف الأحياء والمدن التونسية فضلاً عن أزمة تهيئة عمرانية باتت تؤثر على مظاهر التحضر والتمدن والحداثة وتصل تأثيراتها للجوانب الثقافية والسلوكيات ومدى انتشار الجريمة وجودة التعليم.

حلول هذه المشاكل الحارقة التي يعاني منها المواطن بات مستعصية على الهيئات المحلية والجهوية في ظل أزمة نقص موارد ومشاكل اقتصادية حوّلت مسار أهمية الانفاق نحو خلق مواطن شغل ودعم الشرائح الاجتماعية الهشة على حساب تقلص موارد ملفات التهيئة وحماية البيئة ومظاهر التحضر في المدن، والتي تشكو نقصا تمويليا حادا. هذا النقص يدفع الى زيادة تفعيل فكرة التدبير الحر التي تسمح بمشاركة أكبر للمواطن مع السلط المحلية في تحمل أعباء التهيئة وحماية البيئة، وهو ما يعزز أكثر تشارك المواطن والدولة لمسؤولية انقاذ البلاد وتعزيز مظاهر تحضرها وتهذيب مدنها حتى تتحول الى بيئة حضارية جاذبة وآمنة ومحفزة للاستثمار ومنصة واعدة لأجيال الغد. فقد أثبتت دراسات أنه بقدر تحفيز تشاركية المواطنين مع السلطات المحلية وتذليل الإجراءات البيروقراطية وتعزيز صلاحيات البلديات، يزيد منسوب الانتماء والمسؤولية الاجتماعية وتحسن الأداء الإيجابي للمواطن. حيث ان تشريك السلطات للمواطنين خاصة الشباب منهم في اتخاذ القرار يزيد من ممارسة المواطنة الفعالية والدور الإيجابي للفرد والتزامه بمعايير تشاركية.

التشاركية وتحقيق التنمية المجتمعية تصطدم بضعف اللامركزية والبيروقراطية

 

حسب رصد ميداني فان تعثر النهضة التنموية يعود لعوائق ترسيخ اللامركزية وتضخم المشاكل البيروقراطية ونقص تفعيل فكرة التشاركية. حسب ملخص دراسة (Vellim Nyama &Geoffrey Mukwada) تستلزم التنمية المعاصرة اعتماد المبادئ الديمقراطية للمشاركة الشاملة ومساءلة السلطات أمام المواطنين والشفافية. تظهر النتائج أن دور المواطنين في التخطيط التنموي لا يزال مقيدًا ومشتتًا. هذا التطور المقيّد تم تصميمه وتنفيذه من قبل عدد قليل من النخب خلال العقود الماضية ما يستدعي إصلاحات تشريعية تواكب مستجدات مشاغل المواطنين.

من خلال تقييم التنمية اللامركزية والتشاركية في تونس، يتضح من داخل الهياكل أنه لم يتم التفعيل المثالي لمشاركة عملية لأفراد المجتمع في اتخاذ القرار، بل تم ترجمتها إلى فرصة لإنشاء أنظمة حكومية محلية عاملة يقتصر خلالها دور المواطنين على مشاركة مالية وسياسية مشتتة وغير واعية من خلال المساهمة في الميزانية وانتخاب القادة. ومع ذلك، فإن مشاركة المواطنين هي هدف إنمائي بالغ الأهمية لضمان تحقيق التنمية المجتمعية بكل شفافية وديمقراطية.

على مدى السنوات العشرين الماضية، استخدم مفهوم المشاركة أو (التشاركية) على نطاق واسع في الخطاب المتبني للتغيير الإيجابي سواء على المستوى الوطني أو المحلي. ومع ذلك، فإن مفهوم المشاركة المرتبط بحقوق المواطنة والحكم الديمقراطي غير راسخ بشكل فعّال في وعي عموم المواطنين. كما لا توجد رؤية تتقاطع خلالها مفاهيم المشاركة المجتمعية والمواطنة بشكل أوضح مما هو عليه في العديد من برامج الحكم اللامركزي المعتمدة اليوم.

تتطلب الحاجة للتنمية المجتمعية في تونس زيادة توظيف منهجيات التعليم والاتصال الشعبي لتعزيز وعي المواطنين المحليين بحقوقهم ومسؤولياتهم بموجب تشريعات الحكم المحلي الجديدة. وتعتبر اللقاءات المباشرة الدورية مع المواطنين الوحدة الأساسية للديمقراطية المباشرة. في بعض الدول الأفريقية الناشئة، تم تطوير عملية التحسيس والتوعية المجتمعية عبر زيادة نشر مواد تعليمية حول المواطنة والديمقراطية وتطبيقاتها الواقعية (John Gaventa and Camilo Valderrama).

حسب نتائج دراسة (Thesis Decentralization, citizen participation and local public service delivery) (Muriu, Abraham Rugo) تسعى بعض الحكومات التي نجحت في تحقق مسار تنموي على المستويين المركزي والمحلي بشكل متزايد إلى اتباع آليات تشاركية في محاولة لتحسين الحوكمة وتقديم الخدمات. كان هذا إلى حد كبير في سياق إصلاحات اللامركزية التي تنقل فيها الحكومات المركزية جزء من السلطات والوظائف السياسية والإدارية والمالية والاقتصادية إلى الهيئات الجهوية والمحلية.

الدعوة للحوكمة التشاركية مسار يلقى دعماً دولياً، حيث يلعب صوت المواطن دورًا رئيسيًا في اتخاذ القرار بشأن تقديم الخدمات اللامركزية وضمان قيام المواطنين بدور مركزي في التخطيط والتمويل وتنفيذ ورصد وصول الخدمات محليًا من أجل تحسين سبل العيش والحد من الفقر.

تم تقييم تأثير التشاركية من حيث كيفية تأثيرها على خمسة محددات رئيسية لتقديم الخدمة الفعاّلة، وهي: التخصيص الفعال للموارد؛ المساواة في تقديم الخدمات؛ المساءلة والحد من الفساد؛ جودة الخدمات واسترداد التكاليف. وتم التوصل الى أن مشاركة المواطنين في عملية صنع القرار على المستوى المحلي والجهوي ضئيلة وأن التأثير الناتج على تقديم الخدمات اللامركزية ضئيل. وخلص الرصد إلى أنه على الرغم من الأداء غير المرضي لمشاركة المواطنين، فقد لعبت بعض التجارب الناجحة على سبيل المثال في عدد من الدول الأفريقية الصاعدة، كاعتماد بعض السلطات المحلية “خطط عمل لتقديم الخدمات” والتي يتم تفعيلها وتحديثها باستمرار لضمان أداء أكثر نجاعة لتطبيق التشاركية بين المواطن والهيئات المحلية كالبلديات على سبيل المثال.

وقد لعبت مثل هذه الخطط في بعض الدول الأفريقية النامية كرواندا وليبيريا دورًا رئيسيًا نحو إضفاء الطابع المؤسسي على مشاركة المواطنين التي تبني عليها الهياكل المستقبلية. ويوصي بأن يكون الإطار الفعّال لمشاركة المواطنين إطارًا غير مرتبط مباشرة بالسياسيين؛ إطار قانوني وحيث يكون للمواطنين فرصة التظلم القانوني، وهو الذي يُلزم المسؤولين بتنفيذ مقترحات المواطنين التي تفي بالمعايير المحددة بالإضافة إلى محاسبة أفعالهم في إدارة الموارد العامة.

تحديات بيئية تضغط على أولويات البلديات وزيادة مطالب العدالة التنموية

يشكو الكثير من التونسيين من نقص العدالة التنموية وذلك بسبب تعطل ترسيخ اللامركزية، في حين تبرز تحديات بيئية وطبيعية على الهامش، ولا ينتبه الى تداعياتها السلبية الكثيرون خاصة من عامة الشعب. حيث يزيد منسوب التلوث ونقص الموارد المائية. وبات شبحا يتهدد جودة حياة أجيال التونسيين في المستقبل.

هذه التحديات الوجودية لا تحظى باهتمام كبير بسبب تغير أولويات الحكومات وفق حدة الأزمات الاقتصادية الخانقة وخاصة عقب تراجع معدلات الاستثمار وارتفاع نسبة البطالة والفقر. لكن رغم هذه الأزمات وتأثيراتها على ميزانية الدولة ومخصصات مؤسساتها وهيئاتها، الا أن معالجة بعض التحديات البيئية والطبيعية باتت تستدعي تكثيف جهود تطبيق التشاركية بين الإدارة والمواطن.

وتواجه أغلب المناطق التونسية تحديات بيئية حادة كزيادة التلوث ونقص الموارد المائية توازياً مع هشاشة البنى التحتية، وهو ما قد يحد من نجاعة فكرة تعزيز النهضة التنموية في الجهات والمناطق التونسية. كما أن طموحات زيادة إطلاق مشاريع تنموية في الجهات تصطدم بتحديات تنظيمية ضخمة تستدعي تعزيز تدخلات وصلاحيات الهيئات المحلية كالمجالس البلدية والأمن البلدي. لكن لا يمكن لمثل هذه التحديات أن يتم رفعها وتلبية طموحات المواطنين دون تعزيز الثقة بين المواطن والإدارة وزيادة تشريكه في مراكز صنع القرار.

في مقابل هذه الأزمات المستجدة، باتت تحديات التنظيم العمراني وتهذيب البنى التحتية من الأوليات الثانوية بالنظر لمحدودية الموارد، وهو ما يفرض زيادة تفعيل أفكار برامج التشاركية مع المجتمع المدني والمواطنين لتحمل جزء من عبئ ضخم تتحمله البلديات خاصة. حيث بات من المهم زيادة التوجه لمبادرات التدبير الحر. فتطبيق عدالة الاستفادة من الخدمات والمرافق الادارية بات من أهم أوليات تطلعات المواطنين. فجزء كبير من التونسيين يشكو من تفاوت الانتفاع بخدمات الدولة خاصة على مستوى التهيئة ومشاريع البنى التحتية، وهو ما يراكم مشاكل تتفاقم في الخفاء لتصبح مبررات رئيسية لشبح انفجار اجتماعي خاصة في الاحياء الفقيرة خدماتيا. حيث أثبتت دراسة التجارب المقارنة أن تطبيق القانون ومرعاة قيم العدالة والمساواة تعتبر رافدا مهما لتحفيز وعي المواطن بتنمية منطقته، كما أن الحلول الأمنية الرادعة للمخالفين دون الالتزام برفع وعي المواطن بمحيطه وبيئته لا تثمر نتائج واعدة في أغلب الأحيان حسب البحث في بعض المصادر والتجارب البلدية في تونس. حيث يعتبر دور رجال الأمن في الالتزام بقوانين البناء وحماية البيئة مهما لكن مع أهمية الانفتاح على التحسيس ورفع الوعي حتى يترسخ سلوك بين الأفراد مقيد بمراعاة المصلحة العامة وتهذيب المدن. لذلك فان مهمة الردع الأمني لا يمكن أن تكتمل بدون تحسيس وتوعية.

أهمية نشر الوعي بمبدأ التشاركية لإيجاد حلول مشاكل المواطنين

ثبت حسب بعض الدراسات أن مشاركة المواطنين والمجتمع المدني للسلطات المحلية والجهوية مهمة جدا للنهوض بهذه التحديات وتحسين جودة الخدمات. لكن مشكلة نقص الوعي والتمويل من تعوق زيادة نجاعة أداء الهيئات المحلية والبلدية.

وفي ظل تفعيل فكرة الرئيس قيس سعيد لمنح دور أكبر للمجالس الجهوية والمحلية وتعزيز تشاركية المواطن مع الإدارة في تقرير مصير منطقته، تبلورت أفكار واعدة يؤمن بها بعض الناشطين الطامحين لتحقيق التغيير الإيجابي ونهضة تنموية والبيئية تبدأ من المناطق المحلية، وذلك بزيادة تفعيل مبادرة التحاور والتواصل بين البلديات والسلطات الأمنية والجمعيات المحلية من جهة و المواطن من جهة أخرى، وهو ما يعني عدم اقتصار الحلول على الإدارة أو على النخب بقدر اشراك اكثر عدد ممكن من المواطنين في كل المجالات وزيادة التحسيس بأهمية التشاركية والتدبير الحر من أجل بيئة مثالية في كل المؤسسات وخاصة التربوية بهدف خلق جيل مسؤول أمام بيئته وأكثر مساهمة في الهيئات وأكثر انتماءا لوطنه، وهو ما قد يحد من مجالات الفوضى والفساد.

الأفكار المطروحة طموحة وليست بغريبة لكن ينقصها مزيد من التفعيل، وتمثل قاعدة صلبة لمجتمع أفضل في المستقبل، هكذا يعتقد بعض الناشطين الطامحين لتحسي جودة السكن والتهذيب العمراني.  كما أن مثل هذه المبادرات تحفظ ترشيد إنفاق المال العام وتوجيهه لأولويات التنمية الحقيقية التي تخلق موارد وفرص وظيفية وتمكين الشباب.

بومهل كنموذج لتفعيل التشاركية من أجل التنمية

بلدية بومهل، على سبيل المثال، تواجه نقصاً في الموارد ولتفادي ذلك بات من المهم تعزيز فكرة التشاركية والتدبير الحر في بعض المجالات لحل مشاكل المواطنين خاصة على مستوى المخططات العمرانية وتهيئة البنى التحتية وتهذيب الأحياء وتعزيز تلاحم الإدارة بالمواطن لخدمة صالح المتساكنين. لكن ضعف نجاعة اللامكزية ونقص حالة الوعي ومحدودية تعاون المؤسسات والمشاكل البيروقراطية في الإدارة وضعف دور الاعلام، مثل عثرة أمام تعميم هذه الفكرة بين جل المواطنين.

رغم ذلك، هناك تحديات تتعلق بتوزيع المهام والصلاحيات ووتيرة تفعيل وإنجاز الأفكار وترجمتها الى حلول واقعية. لكن هذه الحلول  يجدر أن تتوافق مع معايير خلق بيئة نظيفة ومثالية لأجيال الغد.

فالمظهر الجميل لإطلالة مدينة بومهل على جبل بوقرنين لا يبدو مكتملاً أو مثالياً. حيث يشكو المواطن من بعض النقائص في التهيئة والبنى التحتية، وهو ما يحتم زيادة تفعيل التشاركية بين السلطات والمواطنين لتحسين مقومات التهذيب في المدينة خاصة على مستوى تحسين الخدمات المتعلقة بجودة السكن والعيش، فضلاً عن حاجة ماسة لزيادة تهيئة المناطق الصناعية والتجارية وتفعيل الاستثمارات بها من أجل توظيف أكثر عدد ممكن من المتساكنين. وهذا ما ممثل الشغل الشاغل للمجلس البلدي الذي يواجه تحديات تنموية وتنظيمية ضخمة.

العمل التشاركي يحفز حالة الوعي بأهمية دور المواطن

 

العمل التشاركي قد يحفز حالة الوعي بأهمية دور المواطن قبل السلطة في تحسين جودة الخدمات وحماية البيئة ومقاومة ظاهرة النفايات الضارة خاصة البلاستيكية ومخلفات المصانع والمنازل والصرف الصحي. وعلى الأرجح أن زيادة تدريب المسؤولين عن حفظ البيئة وردع المخالفات ورفع وتيرة نشاطات التحسيس والتوعية قد تزيد من مبادرات المواطنين والمجتمع المدني الى جانب دور العنصر الأمني لمقاومة الاستهتار بالبيئة ودعم فكرة التعايش في بيئة مثالية. تطبيق هذه الأفكار قد يستحق تشريعات جديدة لتفعيل برامج عمل مشتركة تلبي طموحات المتساكنين. كما أن زيادة تفعيل برامج تنموية مشتركة بين الإدارة مع المواطن من شأنها أن تعزز من الثقة الشعبية المتراجعة في عموم الإدارات خلال العقد الأخير. وهو ما يدفع لزيادة البحث في حلول تستوجب مراجعة القوانين الحالية وتحديثها وفق متغيرات أولويات حاجيات المواطنين وللتغيرات البيئية ووتيرة النشاط العمراني.

يعتبر الوقوف الى جانب مشاغل المواطنين والاستماع إليهم وتسهيل قنوات التواصل والحوار من بين دعامات افق التشاركية. وتحتاج تنمية المدن والأحياء وتعزيز دورها في الدورة الاقتصادية للبلاد  مزيدا من الجهود لتشريك المواطن في عمليات التخطيط والتطوير والتعبير الحر عن ارادته في التغيير في منطقته.

نموذج التشاركية في تهيئة البيئة المحلية ازدهر في المجتمعات المتحضرة، حيث لا يعول المواطن فقط على تدخل الهيئات المحلية بل يشارك من خلال مجتمع مدني فاعل ومبادرات مستقلة في إيجاد حلول لتنمية جودة الحياة في المدن والاحياء، عبر التبرعات او من خلال الالتزامات الاجتماعية، او من خلال مبادرات تمويل مشاريع التهذيب العمراني عبر لجان الحي.

التهذيب العمراني يؤثر إيجابا على الصحة النفسية

تحديات التمويل ونقص فاعلية التعاون بين مؤسسات القطاع العام والخاص، هي من تؤرق أولويات تعزيز الخطط التنموية للمناطق المحلية التونسية حتى تستجيب لمعاير جودة الحياة وبيئة العمل. فبقدر ما تتحسن جودة البنى التحتية ويتعزز الجانب البيئي بقدر ما يؤثر مباشرة في الجانب النفسي والاحساس الالتزام لدى المواطنين. فأهمية التحسيس أقوى من الردع الأمني حسب دراسة التجارب المقارنة.

تفعيل مشاركة حقيقية للمواطن في اتخاذ القرار

يعتقد بعض المهتمين بمجال البيئة أنه حان الوقت لزيادة تفعيل دور أكبر للشباب خاصة من ذوي الكفاءات في النهوض بالتحديات التي تواجه التنمية المحلية. فهناك تحديات غير مباشرة قد تعيق تحقق التنمية المرجوة التي يطمح لها التونسيون وتتمثل في تراجع الثقة في الإدارة. وتبرز هنا أهمية تفعيل مبادرات المواطنين ليكون شريكا فاعلا في تقرير مصير التنمية المحلية وفق معايير تشاركية تتمثل في بيئة نموذجية وبنى تحتية جيدة.

وحسب دراسة تجارب تنموية في عدد من المناطق التونسية، اتضح أنه لا يمكن أن تزدهر تنمية تونس المتعثرة منذ سنوات الا بتفعيل مشاركة حقيقية للمواطن في اتخاذ القرار وتحديد أولويات التنمية المحلية. وقد أظهرت دراسة لمعوقات النهضة الإدارية والبيئية والعمرانية والاقتصادية التونسية، أن تعويل المواطن على دور الدولة فقط خلال العقود الأخيرة في تحقيق هذه الأهداف، انتهى الى زيادة تفاقم المشاكل التنظيمية والبيئية خاصة، وشكلت واقعاً متردياً يؤرق المواطن التونسي. اذ تراجعت جودة الحياة بتدهور جودة البنى التحتية وزيادة واقع العنف والجريمة والمشاكل الاجتماعية، هذا التراجع ترافق مع انخفاض مقلق لموارد الدولة والسلطات المحلية في تحقيق تطلعات المواطنين. وهو ما حث بعض الناشطين والمتطوعين التونسيين لزيادة العمل على احداث حالة وعي لدى المواطنين بأهمية زيادة تفعيل فكرة التشاركية والتدبير الحر بين السلطات المحلية والمواطنين.

ونتيجة ظروف الجائحة وتداعياتها الاقتصادية على الدولة والموطن، فاقمتها تحديات عالمية أبرزها الحرب الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة، تآكلت القدرات المالية للعديد من المؤسسات بينها البلديات والتي باتت تواجه تضخم التحديات بحلول مختلفة.

التشاركية تحفز خلق بيئة أفضل لأجيال الغد

أثبتت دراسات أن تحسن البنى التحتية والبيئة يعزز نسبة ثقة المواطن في السلطة كما يهذب من سلوك المواطنين واحترامهم للقواعد التنظيمية ويخلق جيلاً ايجابيا ومبدعا. ويعتبر تجاوز عوائق الإدارة البيروقراطية وتفعيل تعاون سلس بين الإدارات وزيادة احتضان المبادرات الفردية والجماعية يؤسس لمفهوم جديد للمواطنة الفاعلة ويعيد الاعتبار لقيمة المواطن والانتماء ويهذب من السلوك ويحد من التطرف السلوكي والعنف والجريمة.

ادارة النفايات والموارد المائية من أهم الملفات التي تمثل أولويات لدى السلطات المحلية، والتي تطرح زيادة تعاون مؤسسات القطاع العام والخاص. أوليات أخرى مطروحة على الطاولة من أجل البحث في تمويلها وأهمها التنظيم والتهذيب العمراني وتعزيز البنى التحتية والمرافق البيئية والتي تمثل بين أبرز المجالات التي تستقطب مقترحات تفعيل التشاركية بين السلطات والمجتمع المدني والمواطنين وذلك بهدف تحسين جودتها وكفاءتها.

فتح الهيئات المحلية لأبوابها لتقبل اقتراحات وحلول المواطنين يمثل توجهاً واعدا قد يعزز من عامل الانسجام بين الهيئات المحلية والمتساكنين ويحسّن من وعي الفرد والمجموعة بتشارك المسؤولية في خلق بيئة أفضل لأجيال الغد.

هذا التوجه يدافع عنه بعض الطموحين بمستقبل أفضل لبيئة حياة صديقة للبيئة، حيث أنه لا مجال ولا مناص من زيادة تفعيل التشاركية والتدبير الحر. والذي يعطي مساحة لتقبل مبادرات المجتمع المدني والمواطنين خاصة على مستوى تهذيب المناطق العمرانية ومشاركة مسؤولية التمويل خاصة بالنسبة للمناطق غير المهيئة والمهذبة، وخاصة تلك التي تستقطب زيادة طلب المتساكنين على السكن. وقد أثبت رصد تجارب التهيئة في بعض المناطق البلدية التونسية ان السلطات المحلية في أغلب المناطق التونسية غير قادرة على تلبية تهيئة جل الأحياء السكنية. وفي ظل نمو الطلب على السكن الخاص، تبدو فكرة التدبير الحر ودعم مبادرات المواطنين وتنظيمها في “لجان حي” تتكفل بمهام القيام بأعمال وتكلفة التهيئة بدل الهيئات المحلية بمثابة نقطة التحول في العلاقة بين السلطات والمواطنين وقد تزيح عن البلديات عبئا ماديا كبير وتسرع في تنظيم الاحياء وتعزيز البنى التحتية. حيث أظهرت الدراسة ان نقص الموارد المالية هو العائق الأكبر امام اغلب بلديات التونسية لتحسين البنى التحية والتهيئة العمرانية وهو ما يضطر الكثير من المتساكنين لانتظار سنوات طويلة من اجل التهيئة.

وفي ظل تضخم أسعار السكن عموماً وخاصة الوحدات التجارية بوتيرة سريعة زادت وتيرة الطلب على السكن الخاص، وهو ما يستقطب مبادرات التدبير الحر التي ترعاها البلديات من أجل خلق فضاءات سكن جديدة لائقة تستجيب لمعاير الاقامة المثالية.

تعميم مثل هذه الفكرة قد يحد من ظاهرة البناء العشوائي الذي لم تستطتع الحلول الأمنية الرادعة السيطرة عليه، حيث يعزز لدى المواطنين الذهاب لتفعيل التشاركية مع البلديات وحمل أعباء التهيئة بدل انتظار زمن طويل فضلاً عن ترشيد ميزانيات البلديات وفق الأوليات المستجدة بالإضافة الى اتاحة موارد جبائية جديدة وخلق فرص عمل للشباب.

وقد بيّنت دراسة بعض التجارب أن بعض الأحياء والقرى والمدن قد تنتظر لسنوات طويلة تدخل البلديات التي فقدت كثيرا من مواردها من أجل تهيئة البنى التحتية في ظل صعود مشاغل جديدة. وبذلك باتت مبادرات المواطنين في مشاركة تنظيم وتمويل التهيئة مهمة تشاركية قد تختصر وقت طويلاً ضائعا في انتظار تدخل الدولة ومشاريع المخطط العمرانية. حيث أن المواطن شريك للددولة في تقرير المصير وتعزيز تحقق أهم المكاسب الدستورية للمواطن وهي الحق في السكن.

التدبير الحر يعزز ممارسة المواطنة

تحمل المواطن لعبء بعض الخدمات عوضاً عن السلطات المحلية كالبلديات بسبب نقص الموارد وتغير الأوليات، يبدو مساراً قد يكون مربحاً لجميع الأطراف عوضاً عن التدخلات الردعية. حيث ثبت أن الردع والحلول الأمنية لم تنهي مشاكل البناء الفوضوي أو مشاكل انتشار الجريمة خاصة في الأحياء فقيرة التهيئة. وبذلك فان استبدال الحلول الردعية بالمبادرات التشاركية الايجابية قد يخلق حافز المسؤولية ووازع الانتماء ويعزز من هيبة المواطن واحساسه بقيمة دوره المجتمعي.

على صعيد آخر، أثبتت بعض الدراسات أن نقص التهيئة العمرانية والبنى التحتية يؤثر على المجتمع بشكل كبير خاصة على مستوى تقلص إيجابية التعامل الشعبي مع السلطات وتكريس نوع من الإهمال وعدم المبالاة مع فكرة البيئة وأولوية جودة الحياة والبنى التحتية ما ينعكس سلباً على فكرة ممارسة المواطنة.

احداث حالة وعي لدى المواطن بأهمية دوره في مشاركة السلطات المحلية لطرح الحلول وانجازها، ضمن منطق التدبير الحر، سعى بعض الناشطين خاصة في مجال البيئة والبلديات لتعزيز تطبيقاته، والنهوض بالحالة البيئية وتعزيز معايير الحياة الكريمة.

فكرة التشاركية بين السلطات المحلية والمواطنين وان طبقت في تونس الا انها أغلبها تواجه محدودية الوعي الشعبي بذلك، اذ تصطدم ببعض التحديات. حيث أن تعزيز وعي المواطن بدوره في تقرير أولويات المشاريع المحلية هو من يعيق النهضة الحضارية والتنموية لبعض المناطق. فالوعي بذلك ظل مقتصرا بين بعض النخب في ظل محدودية فهم السواد الأعظم من المواطنين بهذه الأفكار التي ان تم تعميمها من شأنها أن تعزز دور المواطن في صنع القرار.

الا أن المشاركة في القرار تنطوي أيضاً على المشاركة في جهود التهيئة والمحافظة على بيئة نظيفة. اذ أثبتت التجارب في عدد من الدول الأفريقية الصاعدة أن الحلول الأمنية والردعية لم تعزز فكرة التنظم عند المواطنين، في المقابل عززت مبادرات التحسيس بجدوى مبدأ التشاركية وتوعية الفرد بأهمية المساهمة في التهيئة والتهذيب وتحسين مرافق البنى التحتية في زيادة التزام المتساكنين بهدف خلق فضاء عيش صديق للبيئة ومحفزة للمشاريع التنموية لتترك تداعيات ايجابية مباشرة على المجتمع وعلى أمنه وجودة بيئته.

عموما، لا يمكن نجاح برامج التنمية المحلية داخل البلديات دون خلق حافز إيجابي بين المواطنين يدفعهم للمشاركة الفاعلة على مستوى التخطيط والتمويل. وهو ما يدعو زيادة التوعية بتحفيز الموارد لتحسين بيئة عيش المواطنين وتعزيز جاذبية المدن التونسية. بومهل نموذجا.

خلاصة: رغم الصعوبات الجمّة، لم يفقد جزء كبير من التونسيين الأمل في حدوث تحول جذري شامل لبيئة عيشهم وعملهم. هذا الحلم بتحقيق نهضة شاملة وان خفت بريقه لأسباب مختلفة، ما يزال يساور السواد الأعظم من التونسيين حسب دراسة نموذج من المحتوى الإلكتروني لعدد من تعليقات التونسيين على منصات التواصل الاجتماعي.

هذا الحلم تعترضه تحديات ضخمة تواجه البلاد التونسية الساعية لتحقيق نهضة تنموية شاملة تلبي طموحات التونسيين. تحديات مالية وأخرى سياسية ولعل الأهم تنظيمية واجتماعية. الا أن هذه التحديات قد لا تستطيع الدولة التونسية رفعها منفردة وهي التي تشهد نسبة مديونية تاريخية باتت تربك جهود الانفاق على التنمية وتؤثر على وتيرة تحقيق طموحات التونسيين في أسرع الآجال.

التحديات البيئية والتنظيمية والعمرانية هي الأكثر الحاحاً والأكثر تطلباً لأولويات جهود ونفقات الدولة والمجتمع المدني. لكن التحديات الاقتصادية المستجدة قلّصت من زخم الموارد المخصصة للتنظيم العمراني والبيئي، وفرضت واقعاً تراكمت فيه مطالب المواطنين دون سرعة الاستجابة، وزادت فيه التحديات البيئية والعمرانية ومثلت عامل ضغط واحتقان، ما يدفع لبروز جدوى زيادة تطبيقات فكرة التشاركية بين السلطات والمواطنين في التنمية المحلية. مفهوم التشاركية المعتمد في عدد من التجارب الناجحة يسمح للمواطن بمشاركة القرار وطرح الأوليات وتنفيذها خاصة فيما يتعلق بمبادرات التنظيم العمراني والبيئي، وهو ما قد يوفر على الدولة النفقات المخصصة للبنى التحتية المتهالكة وتوجيهها بدلا عن ذلك لتهيئة مناطق استثمارية تخلق فرصا وظيفية، فضلا عن دورها في تحسين نسبة التزام المواطن في تحمل جزء من المسؤوليات ضمن مبدأ الحرص على خدمة الصالح العام كتهذيب البنى التحتية وتعزيز معايير الجمالية لمظهر المدن.

 

Print Friendly, PDF & Email